قراءة في مسلسل “لام شمسية”: معالجة جريئة لقضية التحرش بالأطفال

عُرض خلال رمضان 2025 مسلسل بعنوان “لام شمسية” للمخرج “كريم الشناوي”، تأليف “مريم نعوم” وورشة “سرد”، بطولة الطفل “علي البيلي”، “أمينة خليل” و “احمد السعدنى” و “محمد شاهين”. تناولت هذه الدراما الرمضانية، التي أثارت جدلاً إيجابيًا، قضية التحرش بالأطفال إلى جانب عدد من القضايا الأخرى التي تمس المرأة والطفل، مثل مشكلات العلاقات الجنسية الزوجية، التنمر، والخيانة الزوجية وغيرها.
تدور أحداث المسلسل حول رحلة تحقيق العدالة للطفل “يوسف” الذي تعرّض للتحرش من قبل صديق والده المقّرب “وسام”، مرورا برحلة إدراك الطفل نفسه بأن ما حدث بينه وبين الجاني لم تكن مجرد لعبة كما أطلق عليها “وسام” (لعبة السر) بل إنها عملية انتهاك لخصوصية جسده وبراءته الطفولية. إلى وتتصاعد الأحداث حتى تصل إلى الحكم على وسام، الأستاذ الجامعي، بالسجن المؤبد في نهاية المسلسل.
عادةً، عندما نسمع بكلمة “تحرش” اوحين مناقشة الموضوع في عمل فنّي نرى الضحية في حالة من الخوف والارتباك والكراهية تجاه الجاني. لكننا نغفل احياناً بأن براءة الأطفال قد لا تدفعهم إلى تلك المشاعر وقد نغفل أحياناً بأن ذلك التحرش في نظرنا ما هو إلا حب بالنسبة لطفل لا يعلم شيء عن التحرش سوى أنها لعبة سر يلعبها الجاني مع الضحية لأنه يحبه.
في بداية المسلسل أظهرت العديد من المشاهد الطفل “يوسف” وهو يتواصل مع الجاني بكل حُبّ، بل وانه يدافع عنه احياناً. في بعض المشاهد نجد ان الطفل “يوسف” يشعر بالغيرة من تقرّب أطفال آخرين من “وسام”. كل تلك المشاعر المختلطة عند الضحية عادت الى سببين; الأول أن المتحرش لم يعتد على الطفل دفعة واحدة، بل تم الاعتداء على مراحل وبشكل متكرر، حيث خلط الجاني فعله المشين بكلمات العطف على الطفل ولمسات تحمل دفئا أبويا، الى ان اكتسب الثقة الكاملة للطفل. أما السبب الثاني فقد كان قلّة التوعية الجنسية لدى الطفل نفسه وأهله ايضاً، وهذا ما استغلّه الجاني ليصل الى مبتغاه بالسيطرة على عقل الطفل ومن ثم جسده.
لم يفهم الطفل “يوسف” ما حصل له، وان كان الامر واضحاً لعقله الباطن، الذي ترجم ما حدث إلى نوبات من الغضب وتبول لا إرادي. بدأت ملامح الفهم تتشكّل لدى يوسف حين دخلت زوجة أبيه “نيللي” الى الغرفة في أحد المشاهد ليجده يعيد اللعبة ذاتها مع أخيه الأصغر. من هنا بدأت رحلة العلاج النفسي للطفل، والتي كشفت له معنى التحرش وماهية ما تعرّض له من قبل الجاني. حتى ان وصل للأمان والثقة مكّنته من التحدث عمّا حدث وفضح المتحرش، “وسام”.
أخذ العمل منذ بدايته دور المثقّف، حيث سعى إلى عرض أعراض التحرش لدى الأطفال، وتعريف معنى الاستغلال الجنسي، وتسليط الضوء على أهمية العلاج النفسي، بالإضافة إلى التوعية بضرورة مواجهة الوصمة الاجتماعية التي تحيط بالناجين من التحرش. ومع ذلك لم يكن ذلك هذا التوجّه مزعجاً من الناحية الفّنية؛ إذ وجّه المسلسل تلك الرسائل إلى المشاهدين من خلال توظيفها درامياً، دون إجبارها بمعلومات سردية مملة.
تميّز العمل الفنّي في رمزيته الأدبية التي ظهرت بوضوح في كل ركنٍ اركان العمل. بداية من الاسم نفسه “لام شمسية” الذي يعرف بأنه “لام” موجودة، ولكن مخفية، لا نتكلم عنها ولا ننطقها، على عكس الحلقة الاخيرة التي سُمّيت “لام قمرية”، حيث تم الكشف عن الحقيقة وحُكم على الجاني بالمؤبد. ظهرت الرمزية ايضا في التتر والموسيقى التصويرية وحتى البوسترات الخاصة بالعمل كدلالة على سمات الشخصيات وعُقدهم النفسّية. فكان للطفل مثلا، لعبة مقطّعة الأجزاء دلالة على طفولته التي تمّزقت. اما الأقنعة التي تحيط بالجاني، فكانت دلالة على شخصياته المتعددة المعلنة والمخفية. كما ان الاضاءة في العمل كانت ايضا بمثابة رمزية ادبية، حيث نجد في بعض المشاهد وجه الجاني من زاوية مُعتمة دلالة على الشر. بدأت أحداث المسلسل في الليل وانتهت فى عزّ النهار، وغيرها الكثير من الدلالات التي جعلت من المسلسل لوحة فنية مليئة بالرمزيات المدروسة.
لم تكن قوة المسلسل تكمن فقط في رمزيته، بل في الأداء التمثيلي الذي جعل كل رمز ينبض بالحياة. فقد اظهر جميع الممثلين طاقاتهم التمثيلية بالكامل، مما نقل لنا أصدق المشاعر المحركة لعواطفنا تجاه القصّة. اما الأمر المثير للدهشة بالنسبة لي، هو أن أفضل أداء في العمل كان من نصيب الضحية والجاني مناصفةً. قدّم الطفل “علي البيلي” شخصية “يوسف” بأداء جميل متصاعد مظهراً تطور الشخصية نفسها وتعقيدها طيلة أحداث العمل. فقد كان يوسف في الحلقات الأولى شخصا مختلفا تماما عن الطفل في نهاية العمل. كما أظهر البيلي قدرة هائلة على توظيف مشاعره في لحظات البكاء أو التحدّث، أيضا في لحظات الصمت المربك أو النظرات التي تفسّر لنا ما نجهله من أحداث. على غرار الضحية، كان لشر الجاني ممثلاً عظيماً. أظهر “محمد شاهين” كل طاقاته التمثيلية المكبوتة في هذا العمل، حيث لم أره بهذا الشكل وبهذه القوة من قبل. وظّف “شاهين” جميع تفاصيل وجهه وحركات جسده المنسقة ليخبرنا بكل شيء. ففي لحظات غضبه، لم يصرخ، بل تحدث بطريقة أثارت الخوف لدى من حوله من شخصيات، وكذلك لدى المشاهدين. وفي لحظات توتره اهتزّت يده بتوتر شديد، بينما بقي صوته ووجهه هادئين. في بعض اللحظات، شكّكنا، كما شكّك أبطال العمل أنفسهم إذا ما كان فعلا متحرشا. أما عن تطور الشخصية، فقد ظهر بكل وضوح في ملامحه ونظراته التي كانت مليئة بالبراءة في بداية العمل، ثم امتلأت بالغضب والانتقام والتكبّر إلى أن وصل أخيراً الى الندم. لم أر ممثلا يجسد هذا النوع من الشر أفضل من “محمد شاهين”.
تم تناول قضية التحرش بشكل عام، أو التحرش بالأطفال على وجه الخصوص، في العديد من الأعمال الدرامية والسينمائية. إلا أن ما يميّز هذا العمل هو تقديمه للقضية من منظور مختلف، حيث ينتمي كل من الطفل الناجي والجاني إلى طبقة ميسورة وغنيّة بعض الشيئ، على عكس العديد من الأعمال الأخرى سابقا، التي ارتبط فيها التحرش بشخصيات من طبقات فقيرة. من الذكاء وضع الشخصيات في طبقة غنية للتأكيد على أن التحرش آفة مجتمعية غير محصورة على الطبقات الفقيرة والمناطق الشعبية كما اعتدنا سابقاً. بل أيضا في المناطق الراقية مثل الكومباوندات التي تم تسويقها خلال السنوات على أن أسواره العالية، يؤمّن ويفصل بين المجتمع الخارجي والداخلي.
كم من متحرش ما زال حراً؟ وكم من ضحية لا تعرف بانها ضحية بعد؟
ترك المسلسل لديّ العديد من التساؤلات؛ كم من متحرش ما زال حراً؟ وكم من ضحية لا تعرف بانها ضحية بعد؟ وهل النهاية التي قدّمها المسلسل تعكس ما يحدث في الواقع فعلًا؟ في الواقع، الأمر مختلف، لا تُكشف كل الجرائم، وان كشفت، فالغالبية ليس لهم المساحة للتحدث مع اهاليهم. وإن تكلّموا فهل كل الأهل مثل “نيللي وطارق”؟ وإن كانوا كذلك، هل لديهم القدرة المادية للذهاب الى مختص نفسي؟
كنت من الغالبية تلك، لم يُكشف المتحرش بي؛ ولم أجرؤ على الحديث مع أهلي، وحين تجرأت، كان أبي أول من تخلّى عني. حتى وقفت أمي إلى جانبي، لم أكن أملك القدرة المادية للذهاب إلى مختصّ نفسي. الجرح ما زال مفتوحًا، والصدمة ما زالت تسكنني.
اختتم “لام شمسية” رحلته تاركاً وراءه أثراً لا يُمحى، ليس فقط على مستوى الدراما، بل في وعي المشاهدين أيضًا. ليس مجرد مسلسل يعرض قضية، بل كان عملاً جريئًا فضح المسكوت عنه، وطرح الحقيقة كما هي، دون تزويق أو مبالغة. بكل تفاصيله، من النص إلى الإخراج، من الأداء التمثيلي إلى الرمزيات العميقة، استطاع العمل أن يُجسّد الواقع، لا ليقدّم لنا نهاية مُرضية، بل ليُذكرنا بأن القصّة لا تنتهي عند الحكم بالسجن على الجاني.
التحرش ليس مجرد حادثة فردية تنتهي بعقوبة قانونية، بل هو ندبة تبقى على جسد الضحية وروحها ومواجهة مستمرة مع مجتمع لم يعتد بعد على سماع هذه القصص، فكيف يصدّقها ويدعم أصحابها؟ “لام شمسية” ليست مجرد دراما رمضانية، بل شهادة حيّة على ما يجب أن يُقال، وعلى ما ينبغي أن يُسمع. هي دعوة لفتح المساحات المغلقة، كي لا يُترك الضحايا وحدهم في العتمة، وكي لا تبقى “اللام الشمسية” مخفية – لا تُنطق، ولا تُرى.
Unfiltered, real art criticism
- جولة في ‘أصوات المرجان’: تجارب فنيّة تستحق التوقف عندها
- مسلسل “لام شمسية”: جرأة في تناول قضية التحرش
- الغد المعتم: الخيال المستقبلي، حبيس أزمات الحاضر


Leave a comment