الغد المعتم

سمعت بالكاتب “فادي زغموت” لأول مرة إثر ضجّة مصغّرة أثارتها روايته الأولى “عروس عمّان”، ونويت قراءة الرواية في المستقبل، لكنني لم استعجل على ذلك، نظراً لأن الخيال الواقعي بالعربية لا يستهويني كثيراً، ما حدث لاحقا هو أن رواية “أمل على الأرض” وهي الجزء الثاني من رواية “جنة على الأرض”، قد نُشرت قبل عقد من الزمن ولم تثر أي ضجّة، لكنها تنتمي الى صنف الخيال العلمي، وهو من الأصناف التي أفضلها. لذلك اشتريت الكتابين لقرائتهما على التوالي. في هذه المقالة أسعى إلى نقد الروايتين، وأرجو أن أكون منصفاً. تحتوي المقالة على بعض الحرق للأحداث، ما قد يؤثر على تجربة القارئ.
على سيرة المستقبل
تدور الأحداث في المستقبل المتوسط، إن صحّ التعبير، في عالم قضى على الشيخوخة باستخدام تكنولوجيا النانو، وشهد قفزات تكنولوجية مبهرة مكّنته بالتدريج من التخلّص من عدة أمراض وصناعة روبوتات بمختلف الأحجام تفي بشتى الأغراض. تسلّط الرواية الأولى الضوء على شخصية “جنة العبدالله” وهي صحفية في عالم مليء بابتكارات، منها ما مكّن التلاعب بالعمر كلياً: تجميده أو تقديمه أو العودة إلى أن يُقمَط المرء في يومه الأول.
المحيط بالشخصيات تقنيّ إلى درجة عالية، من عدسات إلكترونية إلى آلات طباعة للطعام والأعضاء البشرية. في كل برهة، نكتشف جانباً من التطورات دون أن يلجأ الكاتب إلى صبّ المعلومات علينا بشكل مباشر. من الممتع وجود كل هذه الابتكارات دون أن تؤدي أي منها دور “آلة الإله” التي تحلّ الحبكات دون تمهيد منطقي. كذلك أثار اهتمامي تطور التكنولوجيا بين الروايتين، اللتين تفصل بين أحداثهما ثلاثون عاماً؛ أي أن الرواية الأولى، وحتى الثانية لا تصل إلى حد الكمال التكنولوجي. ببساطة لا تفرط الرواية في استعراض التقدم التكنولوجي، على الرغم من الوثبات المهيبة فيه.
يصحب هذا التقدم، بلا شك، تغّيرات اجتماعية وثقافية وسياسية ودينية. تركّز الروايتان على الجانب الدرامي والاجتماعي وتؤطران العلاقات بالتحديات السياسية، وأثر التكنولوجيا على الدين، وأثر الدين عليها. وفي نظري، من أفضل مزايا تصّورات هذه الروية هو منح طائفة، يقال للقارئ أنها طائفة متطرفة، قابلية استخدام التكنولوجيا بطريقة مبتكرة: في محاكاة العدل الإلهي عبر ملائكة هولوغراميين يُحصون الحسنات والسيئات، وموت سريري عشوائي يحاكي الموت الحقيقي، ومئة عام من الحساب على مستوى فردي تحاكي الآخرة. هذا الجانب، على عكس سائر التطورات المذكورة، لا يمكن توقّعه عند التفكّر بمستقبل تكنولوجي، وبالطبع، يفتح هذا التصور المجال للعديد من النقاشات، وهو من أهم ما ينتجه الخيال الروائي، وبغض النظر عن تلك البدعة من الناحية الأخلاقية والدينية، أرفع القبعة لهذا التصوّر، الذي سأعود اليه مراراً في المقالة.
يتيح تثبيت الأعمار للكاتب استخدام شخصيات عاصرت فترة كتابة الروايات، دون الإخلال بالحبكة، ويمكن تقبّل ذلك إن تغاضينا عن بعض الحسابات. على سبيل المثال، تظهر “الصبّوحة” في الرواية الأولى ونسمع أغنية “لنانسي عجرم” في الثانية، وتقدّم “هيلدا خليفة” برامج الواقع التي استعملت تلك الأغاني.
بالمجمل، ننتقل إلى المستقبل كمحيط شامل؛ أي أن التفاصيل التقنية التي تحيط بالشخصيات كفيلة بجعلنا نشعر ب”مستقبلية” القصّة إن صح التعبير، ونتعرض مباشرة لأسئلة تستحق التأمل على كل المستويات، لكن الإجابات لم تكن كلّها شافية.
إماطة التفضيلات الشخصية عن الطريق
مفهوم النقد في الثقافة العربية – إذا صَحَّ صهرُ ثقافات كل الدول الناطقة بالعربية في بوتقة واحدة – لم ينضج بعد، رغم أن البعض، مثل “أسعد داغر” نبّهوا إلى ضرورته منذ زمن يسبق يومَنا الحاضر تقريباً بمقدار يوازي الفارق الزمني بين حاضرنا وزمن الرواية – ولعلّ هذه المجلة تنجح في إنعاش النقد السليم ولو عن طريق التجربة والخطأ. عدم نضوج المفهوم يؤثر سلباً على جميع المنخرطين في المجال الفني، من القارئ إلى الكاتب وحتى الناقد. السلبية هي الكلمة المفتاحية هنا، لأن النقد يرتبط في أعرافنا بالسلبية، وكأن نقد العمل يعني تفنيده، أو أن فعل النقد بحد ذاته يحسم المسألة. الأسلم هو اعتبار النقد جزءًا من جدلية ثقافية، يساهم في بلورةٍ تعود بالنفع على الجميع على المدى البعيد، وإن كان ذلك على حساب الحساسيات على المدى القريب.
وللوصول إلى ثقافة نقدية رصينة، وبحكم تجربتي المتواضعة جداً في النقد والتعرّض له، تعلّمتُ ضرورة الفصل بين التفضيلات الشخصية والنقد الذي يتعامل مع العمل بحد ذاته. بالتأكيد، يصعب الفصل بينهما بحدود قاطعة، إلا أن الطرف الأول (أي التفضيلات الشخصية) يسهل انكشافه حتى لو كان الناقد واعياً بذاته أو محترفاً.
على سبيل المثال، عند قراءة المراجعات حول الكتاب، نجد أن بعض القرّاء يتذمرون من صنف الرواية، وكأن القارئ يتفاجئ بجنسها الأدبي بعد أن ينتهي من قراءتها! عند الحديث عن أصناف الكتب، لا بد من التطرّق الى من يظن أن ذوقه الرفيع يجعله وصيّاً على الآخرين. فهنالك من يظن أن قراءة الكتب غير الخيالية تجعله أذكى من قرّاء الروايات الخيالية، ويليه بدرجة من يرى أن قراءة الخيال الواقعي أذكى من قراءة الخيال التأملي بشتى أنواعه. يظن بعضهم أن الطعن في أصناف لا يحبّذونها، دون طرحٍ فكري دقيق، يدل على التعقيد، بينما في الحقيقة هو أقرب إلى من يزور مطعم شاورما ثم يتكبّرعلى روّاده لأنهم لا يأكلون السوشي، ويبدأ بعدها بالنواح على “رداءة الذائقة العامة“.
كل هذا لأقول أن هذا النوع من النقد يرتبط بالتفضيلات الشخصية، ويمكن للكاتب ببساطه أن يتجاهله. أما القارئ، فيمكنه أن يقيسه على تجربته الخاصة مع العمل، ليتبيّن لنا سويّاً ما إذا كان النقد يفوق الانطباعات الشخصية – خصوصًا إذا تكرّرت الملاحظة عند عدد من القرّاء – فقد يفتح حينها طريقا نحو الضفة الموضوعية.
الراوية في الرواية الأولى، وهي “جنة”، تسرد القصة من منظورها المباشر. المزعج في هذا السرد أنها – من منظوري الشخصي- شخصية بغيضة. ولا أعني أنها بغيضة داخل سياق القصة، بل من خلال تجربة القراءة، ربما لأننا نعبر العالم عبر عقلها، وكلّنا بغيضون لو اطّلعنا على أفكار بعضنا. إلا أن شيئاً ما يؤكد لي أن الأمر أعمق من ذلك، فالشخصية أنانية ومزاجية إلى حدّ كبير، إلى حد أنني بعد الامتعاض من أنانيتها وجدت الشخصيات الأخرى تشير الى ذلك بصراحة.
هذه الأنانية تجعل أرضية مبادئها مائلة بشكل ملحوظ. في الرواية الأولى، قد يستنبط القارئ ذلك عندما يدقق على قراراتها التي طالما كانت رهينة اللحظة. وحتى في المواقف التي يبدو فيها وكأنها تعطي من حولها فسحة، وجدتها – بعد شيء من التمحيص – أقرب إلى استسلام أو مقايضة منها الى خيارٍ طوعي. المثال الذي تبدأ به القصة هو أخوها “جمال” الذي أراد أن يهرم ويموت بشكل طبيعي. تحترم قراره على مضض، ثم نجدها في الرواية الثانية تحمّل شخصيته الافتراضية على جسد آلي! أما علاقتها بزوجها، فتشير أيضاً الى أنانية مفرطة. فقد اشترطت عليه – بسبب مخاوفها السابقة – آلّا ينجبا. وقد تكون وجهة نظرها وجيهة، فمرض ألزهايمر كان له اثر صادم في حياتها، لكن لاحقاً، عندما أتيحت لها تكنولوجيا تسمح بإنجاب جنين باستخدام شيفرة وراثية موجودة مسبقا، قررت إنجاب أمّها، بدلاً من أن تعطيه حتى فرصة للتفكير بالخيارات.
هنا، يجب الفصل بين فكرتين يطرحهما الكاتب بشأن “إعادة الإحياء” – كتصور نظري بذاته – وبين تطبيقها بالعمل الروائي. الفكرتان هما: زرع الشيفرة في جنين، وترميم الجثة. المزعج في الرواية لم يكن الطرح النظري لهاتين الفكرتين، بل قرارات الشخصية وتعاملها مع كل من حولها. هذه السمات الخاصة بالراوية لم تخدم السرد، ولهذا فضّلت الراوية الثانية. بل قد أبالغ وأقول أن الرواية الأولى بأكملها يُمكن قراءتها كمقدّمة للرواية الثانية، التي تستحق القراءة بذاتها.
تفضيل آخر شخصي لدي هو التركيز على التكنولوجيا بصفتها مسألة قائمة بذاتها لا مجرد ظلّ يتبع القضايا الكبرى كالمجتمع والاقتصاد والدين. وهنا يمكن العودة الى الطائفة التي ذُكرت سابقًا، والانطلاق من حديث وددت لو لعب دوراً أوسع في تفاعل الجماعات الإسلامية مع هذا الواقع المتخيل، وهو الحديث النبوي الشريف: ” تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ مَعَهُ شِفَاءً إِلَّا الْهَرَمَ “. ففي عالمٍ متخيّل يتمكن فيه العلم من تفنيد نبوءة، ويركز الكاتب فيه على البعد الديني، كان من الممكن التعاطي مع ردّة الفعل على هذا التناقض المباشر، لأن التكنولوجيا هنا هي من عارضت الدين ولم يكن ذلك على يد أصحاب السوابق مثل الأيدولوجيات أو الاقتصاد أو التغيرات الاجتماعية. أما في الرواية الثانية عندما تصل أخبار عن إعادة إحياء الموتى، لا نجد ضجّة حولها، رغم أنها تتعارض بشكل مباشر – بل أكثر مباشرة من أي اختراق سابق — مع أعمدة الديانات الإبراهيمية. وهذا الغياب يترك فراغًا كان من الممكن ملؤه بأسئلة فلسفية وروحية من العيار الثقيل.
وأخيراً لا بدّ من الإشارة إلى تفصيلين شعرت بأنهما أُقحما في الرواية عنوةً، أحدهما هو اختيار شخصية لتكون متحولة جنسياً وسأذكر في الجزء القادم دليلاً على أن الشخصية تُقحم الرواية بدلاً من أن تُنسج بشكل سلس فيها، والتفصيل الثاني هو في زيارة الشخصية لدبي لتلقي كلمة في متحف المستقبل، المشهد كله كان بمثابة موضعة المنتج.
نقد أكثر موضوعية
قبل الانتقال إلى نقد أكثر موضوعية، سأذكر بعض الملاحظات التي تقع في المنطقة الرمادية بين التفضيل الشخصي والموضوعية. من ذلك ما أعنيه عندما أقول أن “جنة” شخصية بغيضة بأنانيتها، فأنا لا اقصد أن الكاتب لم يكن موفقاً في كتابتها، بل إن اختيار شخصية كهذه لتسرد الأحداث أثّر على علاقتي بالعالم المتخيَّل، إذ نتعامل مع العالم كله من خلال عينيها في الرواية الأولى. أثناء القراءة، كنت أتحمس لاكتشاف المزيد عن العالم من حولها، ولكنني كنت مضطراً لتحمل الهراء منها ومن “بنت حماها” اللئّيمة. الرواية الأولى كانت، كما لو أن شخصاً مزعجاً أخبرك قصة مثيرة.
وبما أن المقالة تتناول الروايتين معا، فلا بد من الاشارة الى بعض البراغي غير المشدودة، أهمّها ضعف الترابط بين الشخصيات عبر الروايتين. على سبيل المثال، في الرواية الأولى، تتحرّك الحبكةَ رغبة “جنة” في إعادة إحياء أمّها، وتُطرح تساؤلات مثيرة عن طبيعة المولود، لنفاجأ في الرواية الثانية بأن ابنتها/أمّها “أمل” قد تحولّت جنسياً. وهكذا تتلاشى الأحلام التي حرّكت “جنة” في الرواية الأولى — بأن تمنح أمّها فرصة ثانية لتعيشا حياةً جديدة معًا — دون أي تعليق يُذكر.
هذا الانقطاع الشديد لم أجد له تفسيراً أو تبريراً داخل الرواية. كيف لشخصية تجرأت في الرواية الأولى على أخذ خطوات جذرية، من منظورها، لتستعيد أمّها، أن ترضى بنسخة بعيدة كل البعد عنها؟ قد يقال أن القرار يعكس تفهّماً من “جنة” وهذا يصحّ لو نظرنا الى الرواية الثانية بمعزل عن الأولى. لكن بما ان الرواية الثانية تعدّ تكملة مباشرة، يصعب عزلها. هذا “التفهّم” الذي قد يكون مقبولا في حال كانت القصة تدور حول شخصيات اخرى في نفس العالم، لا يبدو منطقيًا وفق شخصية “جنة”، حتى مع أخذ مزاجيّتها بعين الاعتبار.
المثال الثاني هو “عمر” الذي يذكر تاريخه مرة واحدة فقط، وحتى عندما يفعل ذلك، لا تكون حجّته مقنعة جداً. لأعطيك السياق سريعاً عن “عمر”؛ فهو شخصية “معترة” في الجزء الأول، وقد سنحت له الفرصة بأن يعود بالعمر لينسى الشقاء كله، ثم تتبناه “جنة” إلى أن يكبر في كنفها، وبعدها ينضم إلى الطائفة المذكورة، ويحاجج بأنه أُعطي فرصة ثانية بعد حياته الصعبة، ولهذا يجب أن نحاكي الثواب والعقاب. ولكن، لو أخذنا منطق الطائفة بأنها تحاول أن تحاكي الثواب الأزلي، فلماذا يقتصر العقاب على مدة زمنية محددة؟ فالخلود هو أكثر ما يثير الترغيب والترهيب في فكرة القيامة. ثم، بما إنه قد نال جزاءه، فلماذا عليه أن يدخل في عدة دورات، كأنه متأثر بحلقات الكارما وتناسخ الأرواح بدلاً من الأزل الإبراهيمي؟ هذه الأسئلة لا أطرحها على الطائفة، وإنما على “عمر” الذي استنبط من تجربته ضرورة محاكاة الحساب. لهذا وجدت أن تاريخه لم يندمج جيداً مع حاضره، مما قلل من الترابط بين الرواية الأولى والثانية أكثر فأكثر.
المثال الثالث هو أخوها “جمال” الذي أعادوه على هيئة رجل آلي، وقد انتُزعت الرواية الثانية الخاصية الأساسية في شخصيته، ألا وهي موقفه من الهَرَم.
بمعنى آخر كان من الممكن لكل هذه الشخصيات أن تكون عائلة مختلفة تماما، ولن يضر ذلك بالأفكار المجردة حول حقوق الآليين والمتحوّلين وأصحاب البدع. خصوصاً ان العالم الذي نسجه الكاتب مميز، ويفتح المجال لقصص متنوعة دون الحاجة الى استحضار الشخصيات ذاتها ثم قطع الجسور بين الروايتين.
يمكن تأويل هذه القرارات الفنية بأنها تعكس نظرة ظرفية وحتمية لنمو الشخصيات؛ أي أن جينات “أمل” لم تلعب أي دور في إعادة تشكيل شخصيتها السابقة، وعندما كبر “عمر” في ظروف مختلفة تطورت شخصيته بشكل مختلف، وما كانت تلك الحجّة عن نيله الثواب سوى تحليل بأثر رجعي، لا حافزاً مباشراً. وهذا ينقلنا إلى أحد أصعب التحديات في الروايات الخيالية غير الواقعية، ففي العوالم المتخيّلة هناك ظروف مختلفة، والأصح للقارئ هو استيعاب تلك الظروف بدلاً من إسقاط ظروف حياته الواقعية. ولينجح في ذلك على الكاتب أن ينجو من هذا الفخ بنفسه أولاً.
ببرودة تحليلية، يمكننا التعاطي مع الخيال وكأنه تلاعب بمتغيرات الواقع. في بادئ الأمر، نعتبر واقعنا اقتراناً مليئاً بالمتغيرات، وفي الخيال نغيّر القيم لنحصل على نتائج مغايرة ونعيد قرائتها لمعرفة المزيد عن المعادلة الكونية، وبذلك نلاحظ المتغيرات التي يعبث بها الكاتب، لكن الكاتب فشل وترك بعض الثوابت كما يلي:
أولاً، الميزة الأهم في الخيال العلمي هي تصور عالم مختلف. ومن الطبيعي في الروايات المستقبلية أن يُسقط الكاتب شيئاً من الحاضر أو يموّه الواقع لينقل لنا العِبر عبر الزمن، لكن ما حصل في الروايتين كان أقل من إسقاط، بل تجميدا كاملا للزمن؛ بمعنى أن المشاكل الأساسية لم تكن سوى تكرار حرفي للحاضر، مثل تكرار الربيع العربي، وصعود الحركات الإسلامية التي انتهزت القوى الثورية الثانية. وفي المظاهرات، نجد نسخة طبق الأصل من احتشاد وتصادم، وكأن التكنولوجيا التي قضينا كتابين في قراءتها بالكاد غيّرت طبيعة الحراك والتظاهر على أرض الواقع.
هذا النَسخُ من الحاضر كان مخيباً للأمل، خصوصاً لأن الرواية قدمت ما يكفي من تقدم وإبداع في تعاطي بعض الشخصيات معه، مما يشير إلى قدرة الكاتب على تصوّر العالم بشكل مغاير. شعرت وكأنه قدّم لنا بوفيها، ثم أخبرنا بأن علينا العودة لأكل ما طبخناه البارحة. فهو يقول إن العالم العربي، بعد مرور ما يقارب القرن، لم يتعلم شيئاً من تجربة الربيع، وقد يكون هذا أكثر التفاصيل ديستوبيةً.
ثانياً نحن ننتقل إلى مستقبل أصبح فيه الخلود خياراً، ثم قانوناً. هذا ليس تغيراً بسيطاً، حتى اختفاء الشيخوخة بحد ذاته، دون قهر الأمراض أو مسببات الموت الأخرى، هو تغير كفيل بأن يقلب العالم. ومع ذلك توقف خيال الكاتب عندما تطرق الى القضية الفلسطينية، مع أن العالم قهر الموت، إلا ان الفلسطيني ما زال محكوماً بالإعدام. ذكّرني هذا بمفهوم “بلفرة الوعي“. الطبقية أيضاً كانت بارزة في عالم الرواية، متمثلة في برنامج واقع يتسابق فيه مشاركون يحاولون الهرب من حياتهم التعيسة وطبقتهم الاقتصادية، أي أن التقدم التكنولوجي تخطّى الحد بين الحياة والموت بعدّة طرق لكنه عجز عن تشويش الحدود الطبقية. ولا يوجد تفسير تقني أو صناعي لاستمرار الوظائف في الحياة تماماً كما هي.
المطلوب هو ليس يوتوبيا بسبب التطور التكنولوجي، بل يمكننا التنبؤ، من تطورات يومنا هذا وتزامنها مع أفظع المجازر وأعتى التباين الطبقي، بأن التكنولوجيا بحد ذاتها لا تجلب الحلول. لكن المطلوب هو أن نرى أثر المتغيرات على نتيجة المعادلة. في عالم يعيش فيه البشر لقرونٍ، من المنطقي أن نتوقع حلولاً أو أنصاف حلول للقضية الفلسطينية والطبقية، ولو لم يحل قضايا مصيرية فعلى الأقل يجب أن يبرز أثر الدهر بدلاً من تجاهلها عبر تجميدها. وهذا ليس تفضيلاً شخصياً لسببين؛ أولاً، مسألة تقديم الحلول للمشاكل الكبرى لم تفت الكاتب، فهو ذكر مسألة التغيّر المناخي وحقوق الحيوانات وجعل من مسألة التعداد السكاني أداة مهمة لحبكة الرواية الأولى. وثانياً كان بإمكانه عدم التطرق لتلك القضايا، فهو ليس مجبراً على حل مشاكل العالم، لكنه اختار أن يذكرها بهذا الجمود.
حتى على المستوى الشخصي لم يترك الخلود شيئاً من الحكمة التي يمكن توقعها قياساً على حكمة كبار السن في يومنا هذا. بدلاً من ذلك، ثُبتت الشخصيات بأعمارها الشابة في مقاييس الحكمة والرعونة. لا تتصالح الشخصيات مع نفسها أو مع بعضها، مع أنها تملك ما يكفي من الوقت للتفكر، ولا تتحدث بحكمة أو تروي. التصور ينقل العقل مع العمر، مما يضيف إلى تأويل النظرة الظرفية. بهذا أعني أن الرواية لا تناقض نفسها بتثبيت بعض التصرفات والعلاقات لكنها تنبع من نظرة أن البشر هم أبناء ظروفهم بشكل مطلق، وهذا يجعل بعض التصرفات متناقضة بشكل آخر؛ فالخوف المفرط والصدمة من خسارة الفرد مفهوم في واقعنا لأنها خسارة لا تعوض، لكن في عالم ظروفه تشمل الخلود وإعادة الأموات إلى الحياة والروبوتات، من المنطقي أن نتوقع ردة فعل مختلفة على غياب شخصية لمئة عام. ردّة الفعل المنسوخة من الحاضر لا تندمج بسلاسة مع عالم الرواية ويقلل من اندماجها أيضاً قدرات تكنولوجية تقلل الهموم، مما يطرح السؤال عن الحاجة لوجود الهموم أصلاً في عالم كهذا.
أخيراً بخصوص التطرف الديني، وجدتُّ للأسف نفس العجز عن تصور الحلول، أو على الأقل الإبداع في نقل المسألة إلى مستقبل تتجلى فيه متأثرة بقوس الزمن. وهذا القصور ليس حكراً على هذه الرواية، لقد وجدت شيئاً مشابهاً في المجموعة القصصية “العراق+مئة” والتي خطّها مؤلفون عراقيون عبر تخيّل الحياة بعد مئة عام، ومع ذلك لم يتمكن بعضهم من تخيّل التطرف بأي شكل جديد فنقلوه كما هو من الحاضر، مع أن تاريخ الإرهاب قصير ومتغيّر ولا أظن أن الحسّ المنطقي أو الفنّي يشير إلى استمراره بنفس الصورة في المستقبل الواقعي، ناهيك عن المستقبل البديل.
فوق القصور في التصوّر هناك قصور في المعالجة، ففي الرواية تسعى العائلة لاستمالة “عمر” بتعريفه على إحدى القريبات لتفتنه، وتبدو أن الخطة تنجح لولا الحظّ. هذا التصوّر عن المتطرّف بأنه مكبوت فحسب، هو تصور سطحي في عالمنا، وفي ذلك العالم الذي يتيح للمرء محاكاة تقترب من الواقع إلى حدّ فتاّك، لا يعقل أن نتصور مشكلة الكبت كما هي في يومنا.
أخيراً هناك بعض علامات استفهام على مفاصل رئيسية في الحبكة، أهمها عن مطالبة الكثيرين بحقوق الشيخوخة وثم الموت. الحالتان تختلفان جذرياً من منظور الحقوق، ويختلف المنطق في المطالبة بهما. بخصوص الموت، لم أجد تفسيراً في الرواية عن الحاجة للمطالبة به، وكأن مسألة الحياة والموت صارت بيد الحكومة. تتأسّى بعض الشخصيات من انعدام القدرة على الموت دون ذكر الموانع من وسائل الانتحار التي لا تستطيع روبوتات النانو إيقافها، بينما لا يوجد في الشيخوخة دون الموت جاذبية تبرّر الرغبة الملحّة عند الجموع التي تتظاهر وتتحزّب لأجل الحصول عليها.
في الختام لا بد من التذكير بأن الروايات التي حدثتكم عنها في هذه المقالة تبتدع عالماً خيالياً وتتعاطى معه بشكل مميز وجريء إلى حد ما، وبهذا تفتح المجال لنقاشات معمّقة لا مرادف لها في الروايات الواقعية. وأظن أن نجاح “زغموت” بدغدغة فكر القارئ يمتثل لما يُرجى من روايات كهذه، ويغطي الإبداع في عالم الرواية على بعض النواقص الروائية إلى حدّ مقبول.
Unfiltered, real art criticism
- جولة في ‘أصوات المرجان’: تجارب فنيّة تستحق التوقف عندها
- مسلسل “لام شمسية”: جرأة في تناول قضية التحرش
- الغد المعتم: الخيال المستقبلي، حبيس أزمات الحاضر


Leave a comment